قصة قصيرة مستوحاة من حياة انسان، كان في يوم من الأيام معنا في الكويت. تم تغيير الاسماء وجهة العمل للمحافظة على خصوصية الأفراد.
استخدمت مناسبة يوم الحب في القصة لايضاح العلاقة الحميمية بين هذا الانسان وزوجته، ولا أقصد من هذا الاستخدام أن أشجع الاحتفال في هذا اليوم. ان كنت ترى الاحتفال محرم شرعا فرجاء لا تحتفل، وان كنت منزعج من اندفاع الناس على كل ما هو غربي، فأنا أعتذر مقدما على ايذاء مشاعرك. صراحة أنا أرى أن هناك مبالغة في مظاهر الاحتفال بهذا اليوم في الكويت وأعرف بعض أسباب هذه التصرفات ومنها ردة فعل على من يحاول أن يفرض أفكاره على بقية الناس. في بريطانيا يمر علينا تاريخ 14 فبراير في كل عام ولا نحس أنه يوم مختلف، وبنفس الوقت نستطيع أن نهدي فيه وردة اذا اردنا ذلك!
----------------------------------------------------------------------------------------
يركب د. محمد سيارته الكامري بعد ان انتهى من القاء محاضرته على الطلبة المستجدين في كلية العلوم. تأخذه هموم الطلبة وهو يشغل محرك سيارته. فما الذي حصل لشيماء وزهرة وبدور وأحمد ومنى وحسن؟ هؤلاء من الطلبة المتفوقين وكانوا من الأوائل في المرحلة الثانوية. لماذا هذا التدني في المستوى؟ هل هو بسبب تغير النظام عليهم ولم يعتادوا عليه بعد؟ أم هي كبوة ولن تتكر؟ أم أن ضعف اللغة الانجليزية هو السبب؟
نعم قد يكون هذا السبب لأن المحاضرات التي تلقى هناك كلها باللغة الانجليزية. كيف يعالج هذه المشكلة ان كانت فعلا هي السبب؟ د. محمد ليس عربي ولم يدرس في بلد عربي ولا يجيد اللغة العربية. د. محمد أصله من الهند ودرس المرحلة الجامعية في الولايات المتحدة ودرس في احدى جامعاتها وهو يحمل الجنسية الأمريكية. يستطيع أن يستخدم بعض الكلمات العربية ولكنه لا يمكنه أن يلقي محاضراته باللغة العربية.
.
د.محمد غرق في هذه الهموم لانه وكما يعرفه طلاب سنة ثانية جامعة لا يهدأ له بال حتى يعرف سبب المشاكل الأكاديمية التي يعاني منها طلبته. ولا يرتاح حتى يجد الحل المناسب لكل طالب منهم.
.
يصل د.محمد الى مخرج مواقف السيارات وما ان يفتح زجاج السيارة الا ويشتم رائحة الشواء القادمة من المطعم القريب من مواقف الجامعة،
.
وبسبب هذه الرائحة يتذكر زوجته سليمة التي بقيت في الولايات المتحدة لانها رفضت ان تستقيل من وظيفتها المهمة بالنسبة لها. هي مدرسة في المرحلة المتوسطة ولانها تعشق التدريس شرطت عليه أن تبقى هناك حتى تجد الوظيفة المناسبة لها في مدارس الكويت. يشتاق الى طباخها والى أكلها اللذيذ، وهو دائما يردد أنه مستعد أن يتحدى كل الكويتيين ان استطاع أحدهم من تحمل حرارة الأكل الذي تصنعه يداها، لأن نسبة الفلفل الذي تحتويه أي طبخة تضاهي نسبة أي مكون اخر من مكونات هذه الطبخة.
.
ولكن كعادته في كل مرة يتذكر فيها زوجته الجميلة يلهي نفسه في أي شيء، وفي هذه المرة يبدأ بتقليب قنوات الراديو، لانه يعرف أن مكانها الطبيعي في قلبه وليس فكره فلا أحد يعلم كيف ستكون العواقب ان سكنت سليمة عقله.
فعقله مشغول بأبحاثه المهمة، بل مشغول بأهم بحث يجريه في حياته العلمية، هذا البحث ان نجح فيه سيضيف اضافات مهمة الى العلم المتخصص فيه، وسيجد الاجابات على الاسئلة التي طالما أرهقت العلماء في هذا المجال.
ومن يدري قد تكون جائزة نوبل من مصيره، فان حصل هذا وهو ليس من المستحيلات سيصبح أول من يفوز بالجائزة في المنطقة، وهذا فخر له وللمؤسسة العلمية التي تم اجراء البحث العلمي فيها. نعم حتى جامعة الكويت لها أن تفخر بهذا الانجاز فهو أحد اساتذتها، بل ابنا لها بغض النظر عن أصله أو جنسيته أو لغته أو دينه أو حتى نوع السيارة التي يركبها والتي تعتبر أقل مستوى من السيارات التي يمتلكها أقرانه في هيئة التدريس، بل أقل مستوى من سيارات طلبته المستجدين.
د. محمد لا يبخل على نفسه فهو دائما في قمة الاناقة والشياكة ويلبس من الماركات ومطلع على كل ما هو جديد ولكن السيارة ليست من اهتماماته وهو مكتفي بالكامري التي عنده ولا يلتفت لتلميحات زملائه الذين يعتقدون أن السيارة الفارهة من الواجبات ويؤثم تاركها!
.
وما ان وصل الى الدوار الرئيسي في المنطقة حتى أصابه ما يشبه بدوار البحر بسبب هذه الأفكار التي أخذته من الشمال الى الجنوب ومن الغرب الى الشرق حتى جعلته يقف قبل الدخول في الدوار فترة أطول من المعتاد مما جعل الشخص الذي خلفه يتضايق منه. وهو في هذه الحالة يسمع صوت هرن السيارة التي خلفه، ينتبه، يحرك سيارته.
ولكنه يرى السيارة التي كانت خلفه قد أتت أمامه وأوقفته، وينزل منها رجل غاضب من هذا التأخير، وما أن يفتح باب السيارة حتى يتفاجأ بكف الرجل تلطم وجهه بقوة!
...
!!
؟؟
!!؟؟!!
؟؟!!؟؟
يختفي الرجل ويبقى د. محمد في مكانه، يحاول معرفة الذي حصل. أين اختفى الرجل، قد ذهب الى البيت ليتناول الغداء وكأن شيء لم يحصل، قد يتأذى قليلا لانه خرج عن طوره، أو قد يكون مرتاح بعد أن أشفى غليله من هذا الذي أخره، أو لعله مازال ناقم على د. محمد، سيفتخر بهذه الجرأة أم يخجل من نفسه على هذه الفعلة. لا أحد يعلم ما الذي حصل معه، انتهى دوره في هذه القصة، لن تحصل معجزة ويعود مرة أخرى بعد أن اختفى.
.
ولكن د. محمد لايزال ملء مخه علامات الاستفهام وعلامات التعجب! يحاول أن يبحث عن تفسير لما حدث. عقله يخذله، لا يتفاعل مع الحدث، مشاعره مضطربة، تخذله هي الأخرى، أين الغضب؟ أين الخوف؟ أين حب الانتقام؟ لم يتعلم هذا في الجامعات الأمريكية ولكن هذه غرائز عند الانسان ولا تحتاج الى محاضرات حتى يتقنها. كل ما يدور في باله هو سؤال واحد فقط: ما هي قيمة هذه الحياة بل ما هي قيمة نفسه، يحتقرها!
.
.
.
بعد يومين...
.
يجلس د.محمد ويفكر أو يحاول أن يفكر ويتأمل بالذي حصل ولكن لا يزال في حالة اضطراب حتى رن هاتفه النقال...
رقم المتصل من خارج البلاد، لا بد أنها سليمة، يرد عليها فيسمع
.
Happy Valentine’s Day
.
يسكت، تقول له: مفاجأتك لم تصل الى الان! هل ستكون باقة ورود كالتي أرسلتها العام الماضي؟
لا يرد، هي لا تعلم أنه لم يرسل لها أي شيء هذه السنة.
تقول له: أنت لا تريد أن تفسد المفاجأة، لكنها وصلت، تكذب عليه، يعلم أنها تكذب.
تقول له أنها حضرت له مفاجأة.
لا يتفاعل.
تقول له: لقد تركت عملي وأنا مستعدة الان لكي أنتقل الى الكويت وأعيش معك.
وما ان سمع هذه الكلمات حتى انهمرت دموعه، حاول أن يخفي ذلك عن سليمة. وهي بدورها لم تعلق على التغير في نبرة صوته. هو لا يدري ان نجح في اخفاء بكائه عنها أم هي لم تصدق أن ما سمعته بكاء فهذا من المحال بالنسبة لمعتقداتها.
يشعر بحزن شديد،
يسعد بهذا الشعور، فهو دليل أن حالة الاضطراب قد انتهت.
هو الان ليس غاضب وليس خائف ولا يحمل كراهية لأي أحد.
الآن هو حزين فقط وهذا يكفي، فهو يعلم أن للانسان طاقة يستطيع أن يتغلب بها على أحزانه مهما بلغت شدتها.
قال لها: أنا في المطار يا حبيبه، لا تستعجلي، سنتحدث بالأمر عند الوصول.
استغربت الأمر، لماذا هو في المطار؟
لم تسأل.
وهو لا يعطي أي معلومة أخرى.
لا يقول لها أنها أخرجته من الجحيم،
ولا يقول لها أنه ممتن لها بحياته، ولا عن اشياقه لها
وهي لا تعلم أن تذكرته التي يحملها بيده وهو في قاعة الانتظار ذهاب فقط، ولا تعلم أنه استقال من الجامعة وأنه سيبحث عن وظيفة في الولايات المتحدة.
.
.
.
.
.
خسرته الكويت!